أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي محدث وفقيه، وإمام في التفسير والحديث وهو من أخص تلاميذ ابن عباس، وممن روى الحديث عن أم المؤمنين عائشة، وعدد كبير من الصحابة ممن شهد بدرا. يرجع إليه، حسب أتباعه وبعض المؤرخين، المذهب الإباضي، فهو من أرسى قواعده وأصوله.
وأما ما اشتهر عند المؤرخين من نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان فهي نسبة عرضية سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها فنسبت الإباضية إليه من قبل الأمويين. والإباضية في تاريخهم المبكر لم يستعملوا هذه التسمية، وإنما كانوا يستعملون عبارة جماعة المسلمين أو أهل الدعوة وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة الإباضية كان في أواخر القرن الثالث الهجري ثم تقبلوها تسليما بالأمر الواقع.
نشأته
ولد ما بين عامي 18-22 هجرية في بلدة فرق في منطقة تسمى الجوف في نزوى عاصمة المنطقة الداخلية في عمان وفيها نشأ وترعرع قبل أن ينتقل إلى البصرة لطلب العلم. صار من أبرز علماء النصف الثاني من القرن الأول الهجري،
[عدل] شيوخه
وفي البصرة أخذ يتزود بالعلم والمعرفة وخصوصا ما يتعلق بعلوم القرآن والحديث وما يتصل بهما وقد تتلمذ على أيدي كثير من الصحابة والتابعين وأخذ عنهم الحديث والتفسير واللغة والأدب. ومن أبرز الصحابة الذين أخذ عنهم عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وغيرهم. اشتهر بالحرص الشديد في طلب العلم فكان يكثر من الأسفار في سبيل ذلك، وكان ينتهز موسم الحج للقاء الصحابة والعلماء، فقد ذكر الدرجيني أنه كان يحج كل سنة، وكانت له ناقة سافر عليها أربعة وعشرين سفرة ما بين حجة وعمرة. عاش في زمن الحسن البصري وعمرو بن دينار، وكان صديقا حميما للحسن البصري حتى أنه سئل عند موته ما تشتهي قال (إني لأشتهى رؤية الحسن البصري قبل أن أموت) فجيء له بالحسن البصري.
[عدل] مكانته العلمية
روى أبو نعيم في الحلية أقوالا لكثير ممن عاصروه تشيد بمكانته العلمية وزهده في الدنيا ومن ذلك ما قاله عمرو بن دينار وهو أحد علماء التابعين : (ما رأيت أحدا أعلم بالفتوى من جابر بن زيد)، وكان إياس بن معاوية وهو قاضي البصرة في عهد عمر بن عبد العزيز يقول : (أدركت أهل البصرة ومفتيهم جابر بن زيد). أما عبد الله ابن عباس فكان يقول : (لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما عما في كتاب الله)، كما وصفه (ابن عمر) (أنه من فقهاء البصرة البارزين) بينما قال عنه قتادة: (إنه عالم العرب). ويصفه أبو نعيم الأصبهاني بقوله : (كان للعلم عينا معينا، وركنا مكينا، وكان إلى الحق آيبا، ومن الخلق هاربا). كما ذكره (ابن القيم) في أعلام الموقعين بعد ما ذكر المفتين من الصحابة ذكر المفتين من التابعين فابتدأ بالمدينة وفقهائها، وثنى بمكة المكرمة وفقهائها ثم ثلّث بالبصرة وذكر من فقهائها المفتين جابر بن زيد. ولذلك يعتبر جابر بن زيد من أبرز علماء البصرة في عصره وأجمع علماء الحديث على عدالته وضبطه. فقد روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومجموعة من المفسرين. ووردت إشارات بمكانته العلمية عند السيوطي وابن حجر وقال عنه ابن تيمية بأنه أعلم الناس في زمانه. ونظرا لهذه المكانة العلمية لجابر بن زيد فلم يستطع أحد أن يقدح فيه إلا أن بعض المؤرخين أنكروا علاقته بالإباضية واستندوا على روايات ضعيفة أو مكذوبة تقول بأنه تبرأ من الإباضية قبل موته، واستند كل متحامل على الإباضية على هذه الروايات ليبعد الإباضية عن جابر بن زيد. ومنهم من قال بأن جابر بن زيد المحدث والتابعي المشهور غير جابر بن زيد شيخ الإباضية. وقد قام الدكتور عوض خليفات في كتابه " نشأة الحركة الإباضية" بالرد على هذه الشبهات وتحليلها وانتهى إلى القول : (بعد هذا العرض والتحليل يبدو أن إنكار جابر لعلاقته بالإباضية كما توردها بعض المصادر السنية إنما اخترعت من بعض رواة السّنة الذين يرون جابر شيخا جليلا ومحدثا ثقة، وبالتالي فيجب عدم إلصاق تهمة الإباضية به حتى يعتبر مجروحا، وخاصة أن نقدة الحديث قد رفضوا روايات "أصحاب البدع"، ثم قال يتضح مما سبق أن جابر بن زيد كان وثيق الصلة بالحركة الإباضية منذ وقت مبكر، وكان له دور كبير في تنظيم الحركة وتطورها.
[عدل] دور الإمام جابر السياسي والدعوي
عاصر جابر بن زيد الظروف السياسية التي مرت بالأمة الإسلامية منذ الثلث الثاني من القرن الأول الهجري، فقد كان في سن الإدراك عندما حدثت الفتن بين الصحابة ابتداء من قتل الخليفة عثمان، ثم موقعة الجمل وصفين والتحكيم وعندما بدأ الخط الإسلامي ينحرف عن مساره الصحيح، بدأ في وقت مبكر يدعو إلى القضاء على بدعة الملك الأموي وإلى التمسك بنظام الشورى.
توجد عدة روايات في كتب التاريخ الإباضي تشير إلى وجود علاقات متينة بين أبي بلال مرداس وجابر بن زيد حتى أن كثيرا من المصادر الإباضية تجمع على أنهما كانا قليلا ما يفترقان. وبعض الروايات تفيد أن أبا بلال كان لا يبرم أمرا إلا بعد استشارة جابر. فكانا يخرجان سويا إلى مكة ويلتقيان بعبد الله ابن عباس وعائشة أم المؤمنين. ويبدو مما سبق أن جابر بن زيد انضم في وقت مبكر إلى جماعة القعدة التي كان يتزعمها أبو بلال مرداس بن أدية والتي كان من أهم مبادئها الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة دون التعرض للناس أو رفع السيف في وجه أحد. ورغم العلاقة الوطيدة بينهما إلا أن جابر بن زيد لم يشترك في الأحداث السياسية التي جرت في تلك الفترة من التاريخ الإسلامي فقد تجنب أي احتكاك معاد مع السلطة الأموية، ولم ينقل أنه تعرض لأي أذى قبل أن يتولى الحجاج ولاية العراق على الرغم من أن كثيرا من أصحابه أمثال أبي بلال وأبي سفيان قد تعرضوا لأذى الأمويين منذ عهد زياد بن أبيه.
واستمر جابر بن زيد يدعو إلى الالتزام بالدين الإسلامي بالحكمة ويندد بالمنحرفين عنه بهدوء دون إثارة شغب أو دعوة إلى الثورة فكان يواجه الانحراف في الفكر والسلوك الذي ظهر في تلك الفترة، فقد عاش في فترة اتسمت بالبطش والظلم في البصرة منذ أن تولي العراق عبيد الله بن زياد إلى أن جاء الحجاج بن يوسف الثقفي. ومع التزامه الحكمة في الدعوة إلا أنه لم ينج من بطش الحجاج فسجنه فترة ثم نفاه إلى عمان. ونظرا لمكانة جابر العلمية فقد أصبح له دور في توجيه الأحداث من مدينة البصرة وكان كثير الاتصال بأهل الدعوة رجالا ونساء يزورهم في بيوتهم ومساجدهم لغرض تعليمهم وتعهدهم بالموعظة والدعوة إلى الله.
وقد وجه جابر بن زيد قسما من جهوده إلى إقناع بعض آل المهلب للانضمام إلى دعوته، وهذه القبيلة هي زعيمة الأزد العُمانيين في العراق وقد بلغوا بكفاءتهم أن تولوا مناصب في أجهزة الدولة الأموية، ولعل ذلك أكسبه تغطية إزاء أمراء الأمويين، وسترا يقيه من أن يتعرضوا له بأذى، واستمر الحال كذلك إلى أن انقلب الحجاج على آل المهلب فانكشف جابر وأدخل السجن.
لم تقتصر جهود جابر بن زيد على الرجال وحدهم بل تعداهم إلى النساء، فتوجد معلومات تدل على وجود عدد من المهلبيات في صفوف الحركة وأنهن بذلن أموالا طائلة وجهودا كبيرة لنصرتها وكان الإمام جابر يزورهن ويستفتينه ويجيب على أسئلتهن، وممن كان يزورهن عاتكة بنت المهلب بن أبي صفرة وكانت تسأله عن مسائل في الدين.
كما كانت له مراسلات مع كثير من أصحابه وتلاميذه في مختلف البقاع، فكان يجيب على أسئلتهم التي ترده منهم، وكانت تتخلل رسائله المواعظ الإيمانية والتذكرة بالآخرة والاستعداد للحساب. يبدو ذلك من رسائله إلى سالم بن ذكوان وطريف بن خليد والحارث بن عمر وعبد الملك بن المهلب و عبد الله بن يحيى الكندي . وكان شديد الحذر في اتصاله بأصحابه حتى لا يتنبه إليه أحد من أهل البغي فكان مما كتب إلى عبد الملك بن المهلب في إحدى رسائله: (اكتب إلي بما كانت لك من حاجة في سر وثقة، فإنك قد علمت الذي نحن فيه وما نتخوف من الذي يطلب العلل علينا). وفي رسالته إلى الحارث بن عمر كتب يقول: (واعلم أنك أصلحك الله بأرض أكره أن تذكر لي فيها اسما، فلا ترو شيئا مما كتبت إليك).
كما كانت له رسائل إلى العلماء يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر. فقد ذكر أبو يعقوب الوارجلاني في الدليل والبرهان أن ابن شهاب الزهري عندما أخذ يدخل إلى بيوت الأمراء ويتردد عليهم استنكر العلماء ذلك عليه وخاصة عندما أصبح وزيرا للوليد بن عبد الملك فقد أرسل إليه جابر بن زيد رسالة يؤنبه على فعلته تلك. وذكر أن ممن كتب إليه وهب بن منبه، وأبو حازم فقيه المدينة من جملة مائة وعشرين فقيها من الفقهاء. وقال أبو يعقوب : (وقفت على كتب هؤلاء الثلاثة)].
كان يصلي الجمعة خلف زياد بن أبيه وولده عبيد الله وخلف الحجاج وعاتبه أصحابه حضور الصلاة خلف الحجاج فقال إنها صلاة جامعة وسنة متبعة.
[عدل] آثاره العلمية
يقول الدكتور عمرو خليفة النامي : (وقد توزع علم جابر بن زيد في روافد كثيرة لعل أخصبها وأثراها هو ما أثره عنه تلاميذه الذين انتشر المذهب الإباضي على أيديهم، أبوعبيدة مسلم بن أبي كريمة، وضمام بن السائب وغيرهم، وقد تم تدوين ذلك الفقه في فترة مبكرة وكان جابر ابن زيد نفسه ممن استعمل الكتابة والمراسلة، فكتب بأجوبته إلى تلاميذه وأصحابه، وبين أيدينا اليوم قدر صالح منها). والذي بين أيدينا من آثاره العلمية : كتاب النكاح وكتاب الصلاة وكثير من الروايات عن تلميذيه عمرو بن هرم وعمرو بن دينار بالإضافة إلى حديثه الذي جمعه الربيع بن حبيب في مسنده, هذا بالإضافة إلى مراسلاته مع تلاميذه أمثال سالم بن ذكوان وطريف بن خليد والحارث بن عمر وعبد الملك بن المهلب وغيرهم. كما أن الأخبار التي وصلتنا تذكر أن الإمام جابرا ألف كتابا ضخما في الحديث والفقه سمي (بديوان جابر) تعرض فيها لمسائل الأحكام وضمنه الأحاديث التي رواها عن الصحابة والتابعين. وكان لهذا الكتاب قيمة كبرى لما فيه من علم وهدى، ولقربه من عصر النبوة ولأخذه من أفواه الصحابة رضوان الله عليهم. وبقيت هذه النسخة في حوزة تلميذه أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ثم توارثها أئمة الإباضية في البصرة إلى أن استقرت في مكتبة بغداد التي أحرقها التتار فيما بعد. ويروى أن أحد علماء (المغرب) قام بنسخها وأحضرها إلى جبل نفوسة في ليبيا، ولكن تلك النسخة ضاعت أيضا. وبناء على هذه المعلومات نستطيع أن نقرر بأن الإباضية كانت من أول المدارس الإسلامية التي عنيت بتدوين الحديث ولعل بعض المؤلفات التي لا تزال مخطوطة والمروية عن جابر بن زيد هي قطع من هذا السفر الكبير. وإنه لمن المؤسف أن يضيع هذا التراث العظيم من مكتبة بغداد عندما أحرقت تلك المكتبة العظيمة! وضاعت منها آلاف النفائس، كما أنه من المؤلم أيضا أن تضيع النسخة التي وصلت إلى ليبيا فيما ضاع من التراث الإسلامي العظيم. وليس أعظم محنة من ضياع التراث العلمي والخلقي لأمة مسلمة لا يستقيم حاضرها إلا على القواعد المتينة التي أنبنى عليها ماضيها. ولولا ضياع هذه الكتب وأمثالها التي ضاعت على أيدي التتار وغيرهم لربما كان ويكون للمسلمين وضع آخر غير الوضع الذي هم عليه الآن إلا أنّ قدر الله غالب.
[عدل] أخلاقه
لم يكن جابر ابن زيد ممن يجمع الأموال، بل تدل الأخبار على أنه كان قنوعا عفيفا، متواضعا، زاهدا في الدنيا، مقبلا على الآخرة. يروى أنه قال سألت ربي ثلاثا : امرأة مؤمنة وراحلة صالحة ورزقا كفافا فأعطانيهن. وقال يوما لأصحابه: ليس منكم أغنى مني ليس عندي درهم ولا علي دين. وقد قال في حقه ابن سيرين: كان أبو الشعثاء مسلما في الدينار والدرهم.
[عدل] وفاته
وقد توفي الإمام جابر في سنة 93 هـ[1] على أرجح الروايات واستلم قيادة الإباضية بعده الإمام أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة.
[عدل] المراجع
وأما ما اشتهر عند المؤرخين من نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان فهي نسبة عرضية سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها فنسبت الإباضية إليه من قبل الأمويين. والإباضية في تاريخهم المبكر لم يستعملوا هذه التسمية، وإنما كانوا يستعملون عبارة جماعة المسلمين أو أهل الدعوة وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة الإباضية كان في أواخر القرن الثالث الهجري ثم تقبلوها تسليما بالأمر الواقع.
نشأته
ولد ما بين عامي 18-22 هجرية في بلدة فرق في منطقة تسمى الجوف في نزوى عاصمة المنطقة الداخلية في عمان وفيها نشأ وترعرع قبل أن ينتقل إلى البصرة لطلب العلم. صار من أبرز علماء النصف الثاني من القرن الأول الهجري،
[عدل] شيوخه
وفي البصرة أخذ يتزود بالعلم والمعرفة وخصوصا ما يتعلق بعلوم القرآن والحديث وما يتصل بهما وقد تتلمذ على أيدي كثير من الصحابة والتابعين وأخذ عنهم الحديث والتفسير واللغة والأدب. ومن أبرز الصحابة الذين أخذ عنهم عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وغيرهم. اشتهر بالحرص الشديد في طلب العلم فكان يكثر من الأسفار في سبيل ذلك، وكان ينتهز موسم الحج للقاء الصحابة والعلماء، فقد ذكر الدرجيني أنه كان يحج كل سنة، وكانت له ناقة سافر عليها أربعة وعشرين سفرة ما بين حجة وعمرة. عاش في زمن الحسن البصري وعمرو بن دينار، وكان صديقا حميما للحسن البصري حتى أنه سئل عند موته ما تشتهي قال (إني لأشتهى رؤية الحسن البصري قبل أن أموت) فجيء له بالحسن البصري.
[عدل] مكانته العلمية
روى أبو نعيم في الحلية أقوالا لكثير ممن عاصروه تشيد بمكانته العلمية وزهده في الدنيا ومن ذلك ما قاله عمرو بن دينار وهو أحد علماء التابعين : (ما رأيت أحدا أعلم بالفتوى من جابر بن زيد)، وكان إياس بن معاوية وهو قاضي البصرة في عهد عمر بن عبد العزيز يقول : (أدركت أهل البصرة ومفتيهم جابر بن زيد). أما عبد الله ابن عباس فكان يقول : (لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما عما في كتاب الله)، كما وصفه (ابن عمر) (أنه من فقهاء البصرة البارزين) بينما قال عنه قتادة: (إنه عالم العرب). ويصفه أبو نعيم الأصبهاني بقوله : (كان للعلم عينا معينا، وركنا مكينا، وكان إلى الحق آيبا، ومن الخلق هاربا). كما ذكره (ابن القيم) في أعلام الموقعين بعد ما ذكر المفتين من الصحابة ذكر المفتين من التابعين فابتدأ بالمدينة وفقهائها، وثنى بمكة المكرمة وفقهائها ثم ثلّث بالبصرة وذكر من فقهائها المفتين جابر بن زيد. ولذلك يعتبر جابر بن زيد من أبرز علماء البصرة في عصره وأجمع علماء الحديث على عدالته وضبطه. فقد روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومجموعة من المفسرين. ووردت إشارات بمكانته العلمية عند السيوطي وابن حجر وقال عنه ابن تيمية بأنه أعلم الناس في زمانه. ونظرا لهذه المكانة العلمية لجابر بن زيد فلم يستطع أحد أن يقدح فيه إلا أن بعض المؤرخين أنكروا علاقته بالإباضية واستندوا على روايات ضعيفة أو مكذوبة تقول بأنه تبرأ من الإباضية قبل موته، واستند كل متحامل على الإباضية على هذه الروايات ليبعد الإباضية عن جابر بن زيد. ومنهم من قال بأن جابر بن زيد المحدث والتابعي المشهور غير جابر بن زيد شيخ الإباضية. وقد قام الدكتور عوض خليفات في كتابه " نشأة الحركة الإباضية" بالرد على هذه الشبهات وتحليلها وانتهى إلى القول : (بعد هذا العرض والتحليل يبدو أن إنكار جابر لعلاقته بالإباضية كما توردها بعض المصادر السنية إنما اخترعت من بعض رواة السّنة الذين يرون جابر شيخا جليلا ومحدثا ثقة، وبالتالي فيجب عدم إلصاق تهمة الإباضية به حتى يعتبر مجروحا، وخاصة أن نقدة الحديث قد رفضوا روايات "أصحاب البدع"، ثم قال يتضح مما سبق أن جابر بن زيد كان وثيق الصلة بالحركة الإباضية منذ وقت مبكر، وكان له دور كبير في تنظيم الحركة وتطورها.
[عدل] دور الإمام جابر السياسي والدعوي
عاصر جابر بن زيد الظروف السياسية التي مرت بالأمة الإسلامية منذ الثلث الثاني من القرن الأول الهجري، فقد كان في سن الإدراك عندما حدثت الفتن بين الصحابة ابتداء من قتل الخليفة عثمان، ثم موقعة الجمل وصفين والتحكيم وعندما بدأ الخط الإسلامي ينحرف عن مساره الصحيح، بدأ في وقت مبكر يدعو إلى القضاء على بدعة الملك الأموي وإلى التمسك بنظام الشورى.
توجد عدة روايات في كتب التاريخ الإباضي تشير إلى وجود علاقات متينة بين أبي بلال مرداس وجابر بن زيد حتى أن كثيرا من المصادر الإباضية تجمع على أنهما كانا قليلا ما يفترقان. وبعض الروايات تفيد أن أبا بلال كان لا يبرم أمرا إلا بعد استشارة جابر. فكانا يخرجان سويا إلى مكة ويلتقيان بعبد الله ابن عباس وعائشة أم المؤمنين. ويبدو مما سبق أن جابر بن زيد انضم في وقت مبكر إلى جماعة القعدة التي كان يتزعمها أبو بلال مرداس بن أدية والتي كان من أهم مبادئها الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة دون التعرض للناس أو رفع السيف في وجه أحد. ورغم العلاقة الوطيدة بينهما إلا أن جابر بن زيد لم يشترك في الأحداث السياسية التي جرت في تلك الفترة من التاريخ الإسلامي فقد تجنب أي احتكاك معاد مع السلطة الأموية، ولم ينقل أنه تعرض لأي أذى قبل أن يتولى الحجاج ولاية العراق على الرغم من أن كثيرا من أصحابه أمثال أبي بلال وأبي سفيان قد تعرضوا لأذى الأمويين منذ عهد زياد بن أبيه.
واستمر جابر بن زيد يدعو إلى الالتزام بالدين الإسلامي بالحكمة ويندد بالمنحرفين عنه بهدوء دون إثارة شغب أو دعوة إلى الثورة فكان يواجه الانحراف في الفكر والسلوك الذي ظهر في تلك الفترة، فقد عاش في فترة اتسمت بالبطش والظلم في البصرة منذ أن تولي العراق عبيد الله بن زياد إلى أن جاء الحجاج بن يوسف الثقفي. ومع التزامه الحكمة في الدعوة إلا أنه لم ينج من بطش الحجاج فسجنه فترة ثم نفاه إلى عمان. ونظرا لمكانة جابر العلمية فقد أصبح له دور في توجيه الأحداث من مدينة البصرة وكان كثير الاتصال بأهل الدعوة رجالا ونساء يزورهم في بيوتهم ومساجدهم لغرض تعليمهم وتعهدهم بالموعظة والدعوة إلى الله.
وقد وجه جابر بن زيد قسما من جهوده إلى إقناع بعض آل المهلب للانضمام إلى دعوته، وهذه القبيلة هي زعيمة الأزد العُمانيين في العراق وقد بلغوا بكفاءتهم أن تولوا مناصب في أجهزة الدولة الأموية، ولعل ذلك أكسبه تغطية إزاء أمراء الأمويين، وسترا يقيه من أن يتعرضوا له بأذى، واستمر الحال كذلك إلى أن انقلب الحجاج على آل المهلب فانكشف جابر وأدخل السجن.
لم تقتصر جهود جابر بن زيد على الرجال وحدهم بل تعداهم إلى النساء، فتوجد معلومات تدل على وجود عدد من المهلبيات في صفوف الحركة وأنهن بذلن أموالا طائلة وجهودا كبيرة لنصرتها وكان الإمام جابر يزورهن ويستفتينه ويجيب على أسئلتهن، وممن كان يزورهن عاتكة بنت المهلب بن أبي صفرة وكانت تسأله عن مسائل في الدين.
كما كانت له مراسلات مع كثير من أصحابه وتلاميذه في مختلف البقاع، فكان يجيب على أسئلتهم التي ترده منهم، وكانت تتخلل رسائله المواعظ الإيمانية والتذكرة بالآخرة والاستعداد للحساب. يبدو ذلك من رسائله إلى سالم بن ذكوان وطريف بن خليد والحارث بن عمر وعبد الملك بن المهلب و عبد الله بن يحيى الكندي . وكان شديد الحذر في اتصاله بأصحابه حتى لا يتنبه إليه أحد من أهل البغي فكان مما كتب إلى عبد الملك بن المهلب في إحدى رسائله: (اكتب إلي بما كانت لك من حاجة في سر وثقة، فإنك قد علمت الذي نحن فيه وما نتخوف من الذي يطلب العلل علينا). وفي رسالته إلى الحارث بن عمر كتب يقول: (واعلم أنك أصلحك الله بأرض أكره أن تذكر لي فيها اسما، فلا ترو شيئا مما كتبت إليك).
كما كانت له رسائل إلى العلماء يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر. فقد ذكر أبو يعقوب الوارجلاني في الدليل والبرهان أن ابن شهاب الزهري عندما أخذ يدخل إلى بيوت الأمراء ويتردد عليهم استنكر العلماء ذلك عليه وخاصة عندما أصبح وزيرا للوليد بن عبد الملك فقد أرسل إليه جابر بن زيد رسالة يؤنبه على فعلته تلك. وذكر أن ممن كتب إليه وهب بن منبه، وأبو حازم فقيه المدينة من جملة مائة وعشرين فقيها من الفقهاء. وقال أبو يعقوب : (وقفت على كتب هؤلاء الثلاثة)].
كان يصلي الجمعة خلف زياد بن أبيه وولده عبيد الله وخلف الحجاج وعاتبه أصحابه حضور الصلاة خلف الحجاج فقال إنها صلاة جامعة وسنة متبعة.
[عدل] آثاره العلمية
يقول الدكتور عمرو خليفة النامي : (وقد توزع علم جابر بن زيد في روافد كثيرة لعل أخصبها وأثراها هو ما أثره عنه تلاميذه الذين انتشر المذهب الإباضي على أيديهم، أبوعبيدة مسلم بن أبي كريمة، وضمام بن السائب وغيرهم، وقد تم تدوين ذلك الفقه في فترة مبكرة وكان جابر ابن زيد نفسه ممن استعمل الكتابة والمراسلة، فكتب بأجوبته إلى تلاميذه وأصحابه، وبين أيدينا اليوم قدر صالح منها). والذي بين أيدينا من آثاره العلمية : كتاب النكاح وكتاب الصلاة وكثير من الروايات عن تلميذيه عمرو بن هرم وعمرو بن دينار بالإضافة إلى حديثه الذي جمعه الربيع بن حبيب في مسنده, هذا بالإضافة إلى مراسلاته مع تلاميذه أمثال سالم بن ذكوان وطريف بن خليد والحارث بن عمر وعبد الملك بن المهلب وغيرهم. كما أن الأخبار التي وصلتنا تذكر أن الإمام جابرا ألف كتابا ضخما في الحديث والفقه سمي (بديوان جابر) تعرض فيها لمسائل الأحكام وضمنه الأحاديث التي رواها عن الصحابة والتابعين. وكان لهذا الكتاب قيمة كبرى لما فيه من علم وهدى، ولقربه من عصر النبوة ولأخذه من أفواه الصحابة رضوان الله عليهم. وبقيت هذه النسخة في حوزة تلميذه أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ثم توارثها أئمة الإباضية في البصرة إلى أن استقرت في مكتبة بغداد التي أحرقها التتار فيما بعد. ويروى أن أحد علماء (المغرب) قام بنسخها وأحضرها إلى جبل نفوسة في ليبيا، ولكن تلك النسخة ضاعت أيضا. وبناء على هذه المعلومات نستطيع أن نقرر بأن الإباضية كانت من أول المدارس الإسلامية التي عنيت بتدوين الحديث ولعل بعض المؤلفات التي لا تزال مخطوطة والمروية عن جابر بن زيد هي قطع من هذا السفر الكبير. وإنه لمن المؤسف أن يضيع هذا التراث العظيم من مكتبة بغداد عندما أحرقت تلك المكتبة العظيمة! وضاعت منها آلاف النفائس، كما أنه من المؤلم أيضا أن تضيع النسخة التي وصلت إلى ليبيا فيما ضاع من التراث الإسلامي العظيم. وليس أعظم محنة من ضياع التراث العلمي والخلقي لأمة مسلمة لا يستقيم حاضرها إلا على القواعد المتينة التي أنبنى عليها ماضيها. ولولا ضياع هذه الكتب وأمثالها التي ضاعت على أيدي التتار وغيرهم لربما كان ويكون للمسلمين وضع آخر غير الوضع الذي هم عليه الآن إلا أنّ قدر الله غالب.
[عدل] أخلاقه
لم يكن جابر ابن زيد ممن يجمع الأموال، بل تدل الأخبار على أنه كان قنوعا عفيفا، متواضعا، زاهدا في الدنيا، مقبلا على الآخرة. يروى أنه قال سألت ربي ثلاثا : امرأة مؤمنة وراحلة صالحة ورزقا كفافا فأعطانيهن. وقال يوما لأصحابه: ليس منكم أغنى مني ليس عندي درهم ولا علي دين. وقد قال في حقه ابن سيرين: كان أبو الشعثاء مسلما في الدينار والدرهم.
[عدل] وفاته
وقد توفي الإمام جابر في سنة 93 هـ[1] على أرجح الروايات واستلم قيادة الإباضية بعده الإمام أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة.
[عدل] المراجع